كثير من العلم .. لا يكفي

الجدالات والنِّظارات والخلافات والاختلافات تؤكد لأصحاب الطول عمق العلوم واتساعها  ، ولا مجال لأنْ يأخذ عالمٌ بعلم ما كُرسيَّ الرياسة في هذا العلم دون غيره ؛ إذ العلوم متفاوتة والمكتسبون إياها كذلك ، والعلم في ذاته حمّالٌ أوجهًا غريبها ومألوفها ، والقطع بجهل فلان أو عنديته في العلم أو تبحره فيه لا يكون إلا بقواعد لا يمسها إلا المتفقون ، ومن وراء القاعدة فسحة البحث عما يعضدها أو يخالفها أو يرمي بها .
وعند عوامّنا - ممن لم يوفقوا إلى المدارس باختلافها ؛ فطالهم حظ وافرٌ من أمية التعليم  - معاجمُ فطرية توارثوها لم يجدها أصحاب المدارس في مدارسهم التي ارتادوها ، ولا في كتبهم التي انقطعوا إليها ليالي وأيامًا ؛ وإذن فلا يُرمى بالجهل أحدٌ قبل تحققٍ ، أليس للزنا أربعةٌ شُهودٌ قبل الرجم ، وللقاضي حيثيات حكمه ، وأدلة قضائه ، وشهود عدله ؟! 
وتأمّل كيف وقع أحدُ النحاة فريسة لأحد الذين لم يعرفوا النحو إلا سليقة :
قال عمرٌو الكلبيُّ وقد أنشدَ بعضَ أهل الأدب :

بَانَتْ نُعَيْمَةُ وَالدُّنْيَا مُفَرِّقَةٌ       وَحَالُ مَنْ دُونَهَا غَيْرَانُ مَزْعُوجُ
loading...

فَقِيلَ له : لا يُقال له : "مزعوجٌ" ، إنما يقال : 

"مُزعَجٌ" ، فجفا ذلك عليهم ، وقال يهجو النحويين :

مَاذَا لَقِينَا مِنَ المُسْتَعْرِبِينَ وَمِنْ       قِيَــــاسِ نَحْوِهِمُ هَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوا

إِنْ قُلْتُ قَافِيَـــــةً بِكْرًا يَكُونُ بِهَا       بَيْتٌ خِلَافَ الَّذِي قَاسُوهُ أَوْ ذَرَعُوا

قَالُوا لَحَنْتَ وَهَذَا لَيْسَ مُنْتَصِــبًا       وَذَاكَ خَفْــــضٌ وَهَذَا لَيْـسَ يَرْتَفِعُ

وَحَرَّضُوا بَيْنَ عَبْدِ اللهِ مِنْ حُمُقٍ       وَبَيْنَ زَيْدٍ فَطَـالَ الضَّرْبُ وَالْوَجَعُ

كَمْ بَيْنَ قَوْمٍ قَدِ احْتَـالُوا لِمَنْطِقِهِمْ      وَبَيْنَ قَوْمٍ عَلَـــــى إِعْرَابِهِمْ طُبِعُوا 

مَا كُلُّ قَوْلِيَ مَشْرُوحًا لَكُمْ فَخُذُوا      مَا تَعْرِفُونَ وَمَـا لَمْ تَعْرِفُوا فَدَعُـوا

لِأَنَّ أَرْضِـــيَ أَرْضٌ لَا تُشَبُّ بِهَا       نَارُ الْمَجُـوسِ وَلَا تُبْنَــى بِهَا الْبِيَعُ

ولا يطَأُ القِردُ والخِنزيرُ ساحتَها       لكن بها العِينُ والذيّـــالُ والصَدَعُ

ولسنا هنا نبحث صدق السليقة وموافقتها أو مخالفتها للقواعد ، إنما نغنم من هذا غنمنا في فقه المواجهة ، والبحث قبل الحكم ؛ فالناس تغدو وتروح في فلانٍ على ما له من علم ومؤلفات وتلاميذ ، وفلان هذا كما له حظ من العلم فلإنسانيته حظ أوسع ؛ له من الكمال وليس له الكمال ، فالرويد الرويد ؛ فكلنا له وعليه ، وكلنا يعلم ويتعلم ، وكثير العلم - وكلنا يعي - لا يكفي ، قال الله يعنينا : وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا  " .






تعليقات